شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلًا يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعرًا معروفًا استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته.
في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلًا شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحًا وتصريحًا حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في دهوك فلم يستمع له وإنما أجابه: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن.
عاش أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب.
أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة، فكان شعره يعتبر سجلًا تاريخيًا. كما أنه وصف الطبيعة وأخلاق الناس ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد قال يصف شِعب بوَّان، وهو منتزه بالقرب من شيراز:
مَغَاني الشِّعْبِ طِيبًا في المَغَانيبمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِوَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَاغَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِمَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَاسُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِطَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتىخَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِغَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَاعلى أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِفسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عنيوَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَانيوَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابيدَنَانِيرًا تَفِرّ مِنَ البَنَانِلها ثمر تشـير إليك منـهبأَشربـةٍ وقفن بـلا أوانوأمواهٌ يصِلُّ بها حصاهـاصليل الحَلى في أيدي الغوانيإذا غنى الحمام الوُرْقُ فيهاأجابتـه أغـانيُّ القيـان
وقال يعاتب سيف الدولة ويفخر بنفسه وشعره:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبيوأسمعت كلماتي من به صممأنام ملء جفوني عن شواردهاويسهر الخلق جراها ويختصموجاهل مده في جهله ضحكيحتى أتته يد فراسة وفمإذا رأيت نيوب الليث بارزةفلا تظنن أن الليث يبتسمومهجة مهجتي من هم صاحبهاأدركته بجواد ظهره حرمرجلاه في الركض رجل واليدان يدوفعله ماتريد الكف والقدمومرهف سرت بين الجحفلين بهحتى ضربت وموج الموت يلتطمالخيل والليل والبيداء تعرفنيوالسيف والرمح والقرطاس والقلمالهجاءعدل
لم يكثر الشاعر من الهجاء. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيرًا ما يلجأ إلى التهكم، أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد اللفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وقال يهجو طائفة من الشعراء الذين كانوا ينفون عليه مكانته:
أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌضعيف يقاويني، قصير يطاوللساني بنطقي صامت عنه عادلوقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازلوأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبهوأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكلوما التِّيهُ طِبِّى فيهم، غير أننيبغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل
ومن قوله في هجاء كافور:
من أية الطرق يأتي مثلك الكرمأين المحاجم ياكافور والجلمجازا الأولى ملكت كفاك قدرهمفعرفوا بك أن الكلب فوقهمسادات كل أناس من نفوسهموسادة المسلمين الأعبد القزمأغاية الدين أن تحفوا شواربكميا أمة ضحكت من جهلها الأممألا فتى يورد الهندي هامتهكيما تزول شكوك الناس والتهمفإنه حجة يؤذي القلوب بهامن دينه الدهر والتعطيل والقدمما أقدر الله أن يخزي خليقتهولا يصدق قوما في الذي زعموا
بيد أن أبرز ما أتى به المتنبي على مستوى الهجاء كان القصيدة الشهيرة التي كتبها بعد فراره من مصر حيث استبقاه كافور الإخشيدي فيها قسرًا. وتعتبر قصيدة هجاء كافور من أكثر قصائد الهجاء قسوة. ومما جاء فيها:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُبِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُأَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُفَلَيتَ دونَكَ بيدًا دونَها بيدُلَولا العُلى لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِهاوَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُوَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةًأَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُلَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِديشَيءً تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جيدُيا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُماأَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُأَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُنيهَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُإِذا أَرَدتُ كُمَيتَ اللَونِ صافِيَةًوَجَدتُها وَحَبيبُ النَفسِ مَفقودُماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُأَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسودُأَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِنًا وَيَدًاأَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُإِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُعَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُجودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُمِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُما يَقبِضُ المَوتُ نَفسًا مِن نُفوسِهِمُإِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُمِن كُلِّ رِخوِ وِكاءِ البَطنِ مُنفَتِقٍلا في الرِحالِ وَلا النِسوانِ مَعدودُأَكُلَّما اِغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُأَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُصارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِهافَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُنامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِهافَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُالعَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍلَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُلا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُإِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُما كُنتُ أَحسَبُني أَحيا إِلى زَمَنٍيُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُوَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدواوَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُوَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُتُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُجَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُنيلِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُإِنَّ اِمرَءً أَمَةٌ حُبلى تُدَبِّرُهُلَمُستَضامٌ سَخينُ العَينِ مَفؤودُوَيلُمِّها خُطَّةً وَيلُمِّ قابِلِهالِمِثلِها خُلِقَ المَهرِيَّةُ القودُوَعِندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُإِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذُلِّ قِنديدُمَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةًأَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُأَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةًأَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُأَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍفي كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُوَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌعَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ
كما ينسب له هذا البيت في وصف أكثر أهل الأرض في الذل.
وأوغلُ أهل الأرضُ في الذلِ أمةٌتضامُ ومنها لمن ضام جندُ